معجزة القرن العشرين )اينشتين

حياة أينشتين...ذلك العقل الفذ!!

--------------------------------------------------------------------------------

هذا الموضوع عن حياة أينشتين صدر في جريدة الحياة الدولية و لكن للأسف لم يصدر في النسخة المحلية و لذلك أحببت أن أنشره هنا للمهتمين ...

معجزة القرن العشرين

لو أني دعيت لركوب آلة الزمن لكانت من بين وجهاتي الأولى رحلة إلى وسط أوروبا ما بين العامين 1905 و 1920 م . السبب في ذلك أنني أعلم جيداً أن هذه الفترة شهدت تطوراً دراماتيكياً في علم الفيزياء يفوق ما شهدته قرون ماضيةُ برمتها. اكتشافات مذهلة, تجارب مثيرة و نظريات قلبت عالم الفيزياء – بل العالم بأسره- رأساً على عقب!
بدأ ذلك كله عام 1905 حين كتب شاب في السادسة و العشرين من عمره خمسة أوراق علمية دفعة واحدة, ثلاثة منها اعتبرت بمثابة الإعجاز العلمي. إنه ألبرت أينشتين. عنما نسمع هذا الاسم تقفز إلى أذهاننا كلمة "نسبية" و معها صورة ذلك الرأس الكبير الذي يتبعثر فوقه الشعر الأشيب في كل اتجاه. و لكن من هو هذا الرجل؟ و كيف كانت حياته؟ و لم هو دون غيره من العلماء اكتسب شهرة فاقت سائر الفنانين و الأدباء و الساسة؟

ألبرت أينشتين ولد في ألمانيا عام 1879 لأسرة متوسطة في العلم و المكانة الاجتماعية و الحالة المادية , من أغرب حقائق حياته أنه لم يتمكن من الكلام إلا بعد عامه الثالث , حتى أن أهله ظنوا أنه قد يكون مصاباُ بعلة جسدية أو عقلية. و حتى بعد أن دخل المدرسة , لم يكن أبداً تلميذاً نابغاً بل إنه كان دون المتوسط , حتى أن مدرسيه كانوا يشكون من كسله و بطء فهمه!! و حين تخرج من المدرسة المتوسطة حاول أن يلتحق بالمعهد التقني بزيورخ في سويسرا و لكنه أخفق في امتحان القبول فاضطر للعودة لإكمال دراسته الثانوية و من ثم عاد للمعهد ذاته و في هذه المرة نجح و التحق بالمعهد. و خلال سنوات المعهد أيضاً لم ير فيه أساتذته ما ينبئ بأنه سيكون ذا شأن يوماً ما.
و لهذا السبب فإنه بعد تخرجه و لما حاول أن يحصل على وظيفة بالجامعة لم يقبل و لا حتى كمساعد مدرس.
ظل أينشتين يطرق الأبواب لمدة عامين لم يكن يملك خلالها ما يكفي طعامه حتى وجد عملا بسيطاً في مكتب تسجيل براءات الاختراع بسويسرا. كان أينشتين ينهي عمله سريعاً فقد كان بالفعل حاد الذكاء و لكن سبب عدم تفوقه الدراسي أنه كان يكره أن يضع قيوداً و حدوداً لفكره. كان يرى في المناهج و الامتحانات تسييراً لعقله و حجباً له عن التعمق في التفكير بحرية في أسرار هذا الكون. و هذا بالفعل هو ما كان يقوم به بعد إنهاء واجبات عمله في وظيفته الجديدة, كان يطلق العنان لفكره و خياله الجامح ليلة بعد ليلة. يقرأ أحدث الأوراق العلمية المنشورة و يتأملها حتى نشر أوراقه العلمية الثلاثة .
إحدى هذه الأوراق كانت النظرية النسبية الخاصة التي قلبت مفاهيم الزمان و المكان و أوضحت محدودية قوانين نيوتن , و الثانية كانت تتعلق بالحكة العشوائية لجزيئات الموائع أما الثالثة فقد وضعت نهاية الفيزياء الكلاسيكية و بدأت عصر الفيزياء الكمية التي هي من أهم تطورات الفيزياء منذ بدء الخليقة.
حين نفكر بذلك يجب ألا ننسى أن هذا الرجل فعل ذلك كله دون أي موارد مالية ولا بشرية, دون معامل و لا أجهزة, دون اختلاط بأوساط العلماء. بل نستطيع أن نذهب أبعد من ذلك لنقول أنه لم تكن له في تلك الفترة خلفية رياضية عالية, حتى أن أوراقه الثلاث لم تحتو إلا على عدد قليل من المعادلات البسيطة.كيف إذاً استطاع أن يضع نظرياته؟ بالاعتماد فقط على قدرته العقلية الفذة في التحليل و إجراء التجارب العقلية, نعم... كان يجري تجارب داخل رأسه... تجارب لا يمكن القيام بها عمليا.. و كان يتنبأ بنتيجتها. كان ما يفعله إطلاقاً لحدود العقل فوق ما يتصوره بشر!!!
لقد سبر هذا الرجل- بخياله و فكره وورقته و قلمه - من أغوار الطبيعة و الكون أكثر من آلاف الفيزيائيين المدججين بالأجهزة و المختبرات و المعادلات الرياضية. هنا تكمن عبقرية هذا الرجل.

بعد 1905 بدأ الفيزيائيون ينظرون لهذا الرجل بعين الإعجاب و لكن لم يقتنع العالم بعبقريته إلا بعد عام 1919. أينشتين قدم عام 1915 ورقة أخرى هي النسبية العامة, كانت نظرية في غاية الغرابة و الجمال في الوقت ذاته , كأنها من أفكار الخيال العلمي أو كأنها لغة كوكب آخر. لم يفهم أحد منها شيئاً في البداية و لكن بعد 4 أعوام, عندما استطاع فلكيون بريطانيون دراسة ظاهرة تتنبأ بها نظرية أينشتين, ووجدوا تطابقاً تاماً في النتائج, و عندئذ اصبح أينشتين بين ليلة و ضحاها أشهر عالم مشى على وجه الأرض!
إن نظريات أينشتين لم تغير فقط المفاهيم الفيزيائية , بل إن لها أثر كبير على المفاهيم الفلسفية, و على علم الفلك, فلولا النسبية لما عرفنا شيئاً عن الفجوات السوداء والكيوزار و غيرها. حتى الأدب و أفلام و مسلسلات الخيال العلمي تأثرت بنظريات أينشتين, و من منا لا يعرف مسلسل حرب النجوم؟. و في الفن قال بيكاسو أن المدرسة التكعيبية ما هي إلا استخدام لأبعاد أينشتين الأربعة للتعبير عن المشاعر البشرية على شكل لوحات. باختصار لقد غير أينشتين الطريقة التي نرى بها الكون.

و لكن لا بد أن نفهم أننا في حياتنا اليومية ما زلنا لم نتأثر بالنسبية و السبب أن تقنيتنا ما زالت محدودة. أما في اليوم الذي يستطيع فيه البشر أن يسافروا بسرعات تقترب من سرعة الضوء فإنهم سيرون رؤية العين كل غرائب و عجائب النسبية. مثل ذلك مثل اكتشاف كروية الأرض. حين كان الناس ينتقلون بمحدودية كان الكل يؤمن أن الأرض مسطحة و حتى بعد اكتشاف كرويتها من قبل الرحالة ظل الإنسان البسيط يتصورها كروية حتى جاء اليوم الذي صرنا فيه نرى الأرض مصورة من الفضاء فنراها بأعيننا كروية.

هذا هو أينشتين العبقري و لكن كيف كان تعامله كإنسان؟ كان بشهادة كل من احتك به رجلا متواضعاً كريماً يهتم بالناس حتى أنه كان يرد على رسائل طلبة المدارس و يساعدهم في حل واجباتهم! كان يهتم بالبشرية و له العديد من الوقفات المنادية بالسلام في وقت كانت الحرب فيه تمزق العالم.كان ممن نادوا بقيام الأمم المتحدة و عمل عضواً نشطا في الهيئة التي سبقت قيام اليونسكو. كما كان يدعم العديد من الأعمال الخيرية و العلمية, أما اتهامه بأنه هو السبب في إلقاء القنبلة النووية على هيروشيما و ناجازاكي فإنه اتهام فيه الكثير من المغالطة. علاقة أينشتين بهذه القنبلة لا تعدو أنه هو مكتشف معادلة E=mc2 و التي لم يخطر قط بباله أنه يمكن أن يكون لها أي تطبيقات عملية. أما الرسالة التي أرسلها للرئيس الأمريكي روزفلت فلم يكن هو كاتبها بل كان فقط موقعاً عليها و ذلك لحث الأمريكان على الوصول لطريقة صنع القنبلة قبل الألمان لردع هتلر عن استخدامها. و رغم ذلك فإنه ظل يشعر بالأسف للمشاركة في تلك الرسالة و أطلق عليها أنها أكبر خطأ في حياته, بل إنه دمعت عيناه حين قابل الفيزيائي الياباني يوكاوا فيما بعد و اعتذر منه .

أينشتين له وجه آخر أيضاً, كان يعيش داخل رأسه أكثر مما يعيش مع الناس من حوله, كان غريب الأطوار.. لا يهتم بمظهره, كان يحب العزلة و الانفراد و لكن بالرغم من ذلك كان في شبابه مرحاً له ضحكة رنانة. كان يحب الفلسفة و يضلع فيها. صحيح ما يقال عنه أنه كان يمكن ان يلبس فردتي حذاء مختلفتين و أنه في أواخر أيامه حدث أن نسي عنوان مسكنه.
و لكن ماذا حدث لعبقريته بعد عام 1915؟ لقد أمضى أينشتين 40 عاما بعد ذلك يحاول أن يجد نظرية فيزيائية توحد كل قوانين الفيزياء. كان يؤمن أن الكون أجمل من أن تكون له قوانين كثيرة, و أنه لا بد من وجود قانون واحد يحكم ذلك الكون الواحد المترابط. للأسف مات أينشتين عام 1955 دون أن يصل لهذا القانون على الرغم من الجهد المضني الذي أدى به للانعزال عن زملائه الفيزيائيين. هذا الإخفاق كان عاملاً من العوامل التي أدت لإحساسه بالكآبة في سنينه الأخيرة.
مات أينشتين و بجانب سريره أوراقه و قلمه و لديه أمل في حل لغز الكون..مات بعد أن قال " هنا...على هذه الأرض..أديت مهمتي".


منقوووووووووووووووووووول للفائده