فهمى هويدى كاتب احترم رأيه
صفحة 1 من اصل 1
فهمى هويدى كاتب احترم رأيه
الكاتب والصحافي والمفكر فهمي هويدي. أحد الرموز الفكرية الذين جادت بهم الأمة الإسلامية للنبض بهمومها، وملامسة أمالها وآلامها. سخر قلمه منذ أزيد من أربعين سنة لخدمة قضية واحدة هي: ''الدفاع عن الحرية والديمقراطية''. هاتان القيمتان يعتبرهما فهمي هويدي قاربا النجاة للخروج من وطأة التخلف والفقر، والانعتاق من التبعية للآخر.
التقته ''التجديد'' بالرباط أثناء مشاركته في الندوة الدولية التي نظمتها ''الإيسيسكو'' حول موضوع (تفعيل مقومات الهوية الثقافية الإسلامية في الفهم والتفاهم بين الشعوب والحضارات)، وكان معه الحوار التالي:
دعا الدكتور فهد النفيسي في طرح غير مسبوق، إلى حل جماعة الإخوان المسلمين، معتبرا أنها ـ ككيان تاريخي ـ أصبحت عبئا على الحالة الإسلامية والحالة السياسية العربية بشكل عام، ودعا غيرها من الحركات الإسلامية إلى الابتعاد عن فكرة ''التنظيم'' حتى لو كان حزبا سياسيا، معتبرا أن فكرة ''التيار'' هي الأقرب إلى الحالة الإسلامية، ؟ ما رأيك في هذه الدعوة؟
في رأيي هذا حل انسحابي لا يحل إشكالا، لأن المسألة ليست متعلقة بتنظيم واسمه ووضعه، ولكن في بعض الأحيان تكون السياسات هي المحدد، ماذا تريد بالضبط؟ هل يتخلى الناس عن تنظيمهم وعن إسلامهم والتزامهم؟ في الحقيقة، إن الالتزام هو المشكلة، فليس هذا حلا، وينبغي أن يمضي التفكير في اتجاه آخر، والنموذج المطروح هنا، في بعض البلدان يمكن أن يـــُناقش، وإن اختلف الأمر من بلد إلى آخر، لكن، أن تنسحب مثلا .. في مصر هناك حركات الجهاد، والجماعات الإسلامية، فهي قامت بمراجعات، وتغيروا مائة وثمانين درجة، ولا زالوا موجودين في السجون.
ماذا تقول في شعار ''الإسلام هو الحل''؟
هذه الشعارات أحيانا لا تعني أكثر من أنها تمثل أسهم، وكل سهم يشير باتجاه في ذاته، ولا غضاضة في هذا، خصوصا إذا أطلقت الشعار، وقلتَ ما الذي يعنيه هذا؟ لأنه في بعض الأحيان يُساء الاستخدام، فليس عندي معركة مع الشعار، فعندما يقولون الليبرالية هي الحل، أو العلمانية هي الحل. فكل واحد يعبر عن هويته. والمهم هو أن يقترن إطلاق الشعار بتحديد المبادئ الأساسية التي يعنيها هذا الشعار.
فعندما عزلنا الدين عن الحياة، بدت عبارة الحل الاسلامي غريبة على الأسماع والأفئدة. وعندما صرفنا همّ المتدينين إلى عمارة الآخرة، وأغرقناهم في عالم الغيب، فإنهم هجروا عمارة الدنيا، وسقطوا ـ من ثم ـ في عالم الشهادة. ومنذ صار الخطاب الديني موعظة واتكاء على النصوص من قرآن وسنة، بات مثيراً لدهشة البعض أن يتحدث الاسلاميون عن التنمية والدعم والمشكلات الحياتية الملحة.
هكذا بدا الحل الاسلامي عنواناً سهل الإلقاء والتداول، ممتنعاً عن الفهم والتناول. وصار مهماً وحيوياً، في هذه المرحلة بالذات، أن يفسر العنوان، وأن يجري الحوار حول كيف يكون ذلك الحل، وإلى أين يقود؟.. ولقد طرح مثل هذا السؤال في مناسبات عدة، بالأخص عندما أثير موضوع تطبيق الشريعة، وكان لنا إسهام متواضع فيه، إلا أن دائرة التساؤل حول موضوع الحل الاسلامي باتت أوسع بكثير هذه المرة. خصوصاً بعدما حمله الاسلاميون على أكتافهم أثناء المعركة الانتخابية، حتى كان ما كان من صخب وضجيج واعتراض، لا يزال صداه قائماً إلى الآن.
ثم إنه ليس هناك شيء واحد اسمه الحل الاسلامي، ولكن هناك حلولاً عديدة تنبع من رؤية الاسلام وتصوره للكون والحياة. وبالتالي، فإن الحلول تتعدد بتعدد المشاكل، بمعنى أن رؤية الإسلام وموقفه هما العنصر الجامع، أما الحلول المرتكزة على هذه الرؤية والنابعة منها فهي غير متناهية، لأن وقائع الحياة غير متناهية بطبيعة الحال، ثم إن الحل الاسلامي لا يشترط فيه أن يكون مذكوراً في الكتاب والسنة أو في مدونات الفقه وكتب السلف، لكنه يكتسب صفته تلك إذا لم يتعارض مع نص أو قيمة اسلامية، وإذا كان يحقق مصلحة مرجوة لمجتمع المسلمين. في هذا الصدد أستحضر حواراً ذكره ابن القيم في أعلام الموقعين بين ابن عقيل وعدد آخر من الفقهاء، حول السياسة الشرعية. إذ قال أحد الفقهاء أنه لا سياسة إلا ما وافق الشرع. فقال ابن عقيل: السياسة ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا نزل به وحي. ثم أضاف: فإن أردت بقولك لا سياسة إلا ما وافق الشرع، أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح. وإن أردت ما نطق به الشرع. فغلط وتغليط للصحابة.
وقد انحاز ابن القيم لرأي ابن عقيل، وانتقد من قال إن السياسة هي فقط ما نطق بها الشرع، حتى اتهمهم بأنهم ضيعوا حقوق الناس وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد. وقال قولته الشهيرة: إن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض. فإذا ظهرت أمارات الحق، وقامت أدلة العقل، وأسفر صبحه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه
ورضاه وأمره. والله تعالى لم يحصر طرق العدل وأماراته في نوع واحد، وأبطل غيره من الطرق التي هي أقوى منه وأدل وأظهر.. فأي طريق استخرج بها الحق ومعرفة العدل وجب الحكم بموجبها ومقتضاها.
قلت في مقال لك إن الفلسطينيين حققوا إنجازا مهما حين وافقوا على إعلان مكة، ودعوت إلى وجوب التمسك بهذا الاتفاق، لماذا هذه الدعوة، ومن يريد الالتفاف على الاتفاق ووأده؟
أولا، هناك قوى فلسطينية حريصة على إقصاء حماس، من ناحية ثانية، هناك قوى دولية، متمثلة في الولايات المتحدة الأمريكية بالدرجة الأولى لا تريد إنجاح الاتفاق، باعتبار بعض الجهات المشتبكة مع الحركة الإسلامية لا تريد نجاحا لأي حركة إسلامية في أي نظام سياسي آخر، ولهذا هناك مصادر متعددة تريد محاولة إفشال التجربة، ولكن، على الأقل قيادة فتح، وقيادة حماس حريصة على إنجاحه.
باطلاعك على تجربة الحركة الإسلامية في شقها السياسي المتمثل في حزب العدالة والتنمية، وشقها الدعوي متمثلا في حركة التوحيد والإصلاح، ما تقييمك لهذه التجربة؟
لنقل أولا، إن التجربة تحتاج إلى وقت حتىكلمة سيئةم عليها، ولكن، هناك أكثر من عنصر يجب وضعه في الاعتبار. الأول، أنه في المغرب هناك قدر وهامش من الديمقراطية يسمح بإضفاء الشرعية على مثل هذا النشاط، وهذا الأمر تستفيد منه الحركة الإسلامية.
الأمر الثاني، في نفس الوقت، هناك اتجاه داخل الحركة الإسلامية يدعو إلى التمييز بين الأنشطة المختلفة، وردّد هذا داعية بحجم يوسف القرضاوي، وقال: إنه لا يستطيع أن نجد حركة تحمل الإسلام كله: السياسة، والدعوة، والاقتصاد، والتربية، والخدمات، ولهذا فهناك توجه للتمييز بين الأنشطة.
إصلاح المناهج الدراسية، والتدخل الأمريكي بهذا الخصوص، وإزالة بعض الأحاديث والآيات القرآنية التي تزعج الولايات المتحدة الأمريكية؟ هل دعاوى فرض هذا الإصلاح ستصمد، أم ستجد مقاومة وممانعة في هذه الدول؟
هناك نقطتان: النقطة الأولى، أن هذا تعبير عن عجز وهشاشة الأنظمة السياسية الموجودة التي تقبل الإملاءات من هذا القبيل.
والأمر الثاني أن هذا يضر ولا ينفع، قلت: بدلا من تأطير ''الجهاد'' ضعوه في صيغة رشيدة في مكان صحيح، لأنه أحيانا إذا ألغيت الجهاد، فهذا خداع للنفس، سيبقى في السراديب وفي المناطق المظلمة، وهذا أخطر، لأنه بدل أن تقول إن الجهاد هو جهاد للنفس، وهو مراتب، وأنه ليس فقط قتال، وأن له أنواع متعددة، فابن القيم تحدث عن 13 مرتبة، وهناك من تحدث عن عشر مراتب، بدل أن تشرح بشكل عاقل وتضعه في إطاره المتوازن، تقصيه تماما، ومن ثم تدفع الناس إلى أن تحصِّله وتفهمه بطرق أخرى.
فهمي هويدي الكاتب، متى يكتب مقالاته؟
أنا ليس عندي عمل الآن غير القراءة والكتابة، فأنا أكتب كل يوم، وأحاول أن أؤدي التزاماتي، تجاه القارئ سواء كنت مسافرا أو مقيما. طبعا، أنا كلما أقرأ.. أقرأ كأي تلميذ للكتاب ، يأخذ ملاحظات يسجل، ويراكم عمله، ولديه عناوين جاهزة تتحرك بمقتضى الأحداث الموجودة، وأحيانا القناعات، وأحيانا المناسبات السياسية. وأنا أكتب في الصحف اليومية، فهي لا تستطيع أن تنفصل عن الناس، وهذه الأشياء كنت أكتبها في مجلة شهرية ''العربي''، لكن القارئ للصحافة اليومية يتوقع خطابا قريبا من مداركه، والمسار الذي يؤثر على إدراكه، وبالتالي تختلف الكتابة من منبر إلى منبر، وحسب الطبائع والأوضاع السياسية في كل بلد.
ما الذي أثر في تكوين وفكر الصحافي والكاتب فهمي هويدي؟
أنا من أسرة لها انتماؤها الإسلامي المبكر، فأبي كان في الهيئات الأساسية للإخوان المسلمين، وأنا نشأت في هذه البيئة، وأنا ابن بيئتي، فلم تحدث عندي تحولات. وأتاح لي العمل الصحافي أن أتحرك على مساحات متعددة، ووجدت أن الدفاع عن قضايا الحرية والديمقراطية من منطلق إسلامي ''هذا موضوع مهم للغاية'' لأن الكثير من الكتاب الذين ينتمون إلى الصف الإسلامي يرسلون الكلام في ما هو عقيدي مباشر، أو دعوي مباشر، لكن، أعتقد أن الاقتراب من القضايا الحيوية والدفاع عن الفقراء والمستضعفين وعموم المجتمع هذا تمهيد للمشروع الإسلامي، خصوصا حينما ينطلق الكاتب من إدراكه للموضوع. هذه قضايا مهمة للتوجه الإسلامي بشكل عام.
هل ما يزال فهمي هويدي وفيا لخط ومنهج ''الإخوان المسلمون''؟
أنا تعلمت في مدرسة الإخوان المسلمين، وأنا أعتبر أن الإخوان المسلمين وسيلة، فأنا ملتزم بالمشروع الإسلامي تحت أية راية، ولهذا أنا لم أرتبط بعلاقة تنظيمية مع الإخوان، لاقتناعي بأن العمل الإسلامي له أبواب متعددة، وأحيانا يتجاوز الحركة، فضلا عن كون استقلالي يسمح لي بنقد الحركة دون تأنيب ضمير، أو دون مخالفة تنظيمية، وهذا يخدم المشروع.. والمشروع عندي أهم من الحركة.
هذه الكبوات والسقطات التي تتجرعها الأمة. ما السبيل للنهوض منها، والخروج من الأزمة التي تعيشها الأمة؟
أولا، لا بد من الÏانسانفي المشروع من زاوية الدفاع عن الحرية والديمقراطية، لأنها مهمة في تحديد خيارات الناس، ولأن التحديات الراهنة جسيمة، ثم بتوسيع نطاق المشترك مع الآخرين، والاحتشاد الوطني لمواجهة التحديات في الداخل أو الخارج.
كلمة لقراء "التجديد":
أقول دائما إنه على الناس أن يدركوا أن المشروع الإسلامي هو الهدف النهائي، والهدف النهائي يتعين الوصول إليه عن طريق المرور عبر أشواط متعددة، فينبغي أن يسعى الناس إلى التحرك دون أن يأخذههم الهدف النهائي أو البوصلة النهائية، وأفضل دائما التركيز على القضايا الحياتية للمسلمين وللمجتمع، وللعمل في إطار الاحتشاد الوطني مع الآخرين، والاستمرار في الالتصاق بالواقع الاجتماعي، ودعم الالتصاق بالمجتمع أكثر من التطلع إلى مراتب السلطة.
التقته ''التجديد'' بالرباط أثناء مشاركته في الندوة الدولية التي نظمتها ''الإيسيسكو'' حول موضوع (تفعيل مقومات الهوية الثقافية الإسلامية في الفهم والتفاهم بين الشعوب والحضارات)، وكان معه الحوار التالي:
دعا الدكتور فهد النفيسي في طرح غير مسبوق، إلى حل جماعة الإخوان المسلمين، معتبرا أنها ـ ككيان تاريخي ـ أصبحت عبئا على الحالة الإسلامية والحالة السياسية العربية بشكل عام، ودعا غيرها من الحركات الإسلامية إلى الابتعاد عن فكرة ''التنظيم'' حتى لو كان حزبا سياسيا، معتبرا أن فكرة ''التيار'' هي الأقرب إلى الحالة الإسلامية، ؟ ما رأيك في هذه الدعوة؟
في رأيي هذا حل انسحابي لا يحل إشكالا، لأن المسألة ليست متعلقة بتنظيم واسمه ووضعه، ولكن في بعض الأحيان تكون السياسات هي المحدد، ماذا تريد بالضبط؟ هل يتخلى الناس عن تنظيمهم وعن إسلامهم والتزامهم؟ في الحقيقة، إن الالتزام هو المشكلة، فليس هذا حلا، وينبغي أن يمضي التفكير في اتجاه آخر، والنموذج المطروح هنا، في بعض البلدان يمكن أن يـــُناقش، وإن اختلف الأمر من بلد إلى آخر، لكن، أن تنسحب مثلا .. في مصر هناك حركات الجهاد، والجماعات الإسلامية، فهي قامت بمراجعات، وتغيروا مائة وثمانين درجة، ولا زالوا موجودين في السجون.
ماذا تقول في شعار ''الإسلام هو الحل''؟
هذه الشعارات أحيانا لا تعني أكثر من أنها تمثل أسهم، وكل سهم يشير باتجاه في ذاته، ولا غضاضة في هذا، خصوصا إذا أطلقت الشعار، وقلتَ ما الذي يعنيه هذا؟ لأنه في بعض الأحيان يُساء الاستخدام، فليس عندي معركة مع الشعار، فعندما يقولون الليبرالية هي الحل، أو العلمانية هي الحل. فكل واحد يعبر عن هويته. والمهم هو أن يقترن إطلاق الشعار بتحديد المبادئ الأساسية التي يعنيها هذا الشعار.
فعندما عزلنا الدين عن الحياة، بدت عبارة الحل الاسلامي غريبة على الأسماع والأفئدة. وعندما صرفنا همّ المتدينين إلى عمارة الآخرة، وأغرقناهم في عالم الغيب، فإنهم هجروا عمارة الدنيا، وسقطوا ـ من ثم ـ في عالم الشهادة. ومنذ صار الخطاب الديني موعظة واتكاء على النصوص من قرآن وسنة، بات مثيراً لدهشة البعض أن يتحدث الاسلاميون عن التنمية والدعم والمشكلات الحياتية الملحة.
هكذا بدا الحل الاسلامي عنواناً سهل الإلقاء والتداول، ممتنعاً عن الفهم والتناول. وصار مهماً وحيوياً، في هذه المرحلة بالذات، أن يفسر العنوان، وأن يجري الحوار حول كيف يكون ذلك الحل، وإلى أين يقود؟.. ولقد طرح مثل هذا السؤال في مناسبات عدة، بالأخص عندما أثير موضوع تطبيق الشريعة، وكان لنا إسهام متواضع فيه، إلا أن دائرة التساؤل حول موضوع الحل الاسلامي باتت أوسع بكثير هذه المرة. خصوصاً بعدما حمله الاسلاميون على أكتافهم أثناء المعركة الانتخابية، حتى كان ما كان من صخب وضجيج واعتراض، لا يزال صداه قائماً إلى الآن.
ثم إنه ليس هناك شيء واحد اسمه الحل الاسلامي، ولكن هناك حلولاً عديدة تنبع من رؤية الاسلام وتصوره للكون والحياة. وبالتالي، فإن الحلول تتعدد بتعدد المشاكل، بمعنى أن رؤية الإسلام وموقفه هما العنصر الجامع، أما الحلول المرتكزة على هذه الرؤية والنابعة منها فهي غير متناهية، لأن وقائع الحياة غير متناهية بطبيعة الحال، ثم إن الحل الاسلامي لا يشترط فيه أن يكون مذكوراً في الكتاب والسنة أو في مدونات الفقه وكتب السلف، لكنه يكتسب صفته تلك إذا لم يتعارض مع نص أو قيمة اسلامية، وإذا كان يحقق مصلحة مرجوة لمجتمع المسلمين. في هذا الصدد أستحضر حواراً ذكره ابن القيم في أعلام الموقعين بين ابن عقيل وعدد آخر من الفقهاء، حول السياسة الشرعية. إذ قال أحد الفقهاء أنه لا سياسة إلا ما وافق الشرع. فقال ابن عقيل: السياسة ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا نزل به وحي. ثم أضاف: فإن أردت بقولك لا سياسة إلا ما وافق الشرع، أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح. وإن أردت ما نطق به الشرع. فغلط وتغليط للصحابة.
وقد انحاز ابن القيم لرأي ابن عقيل، وانتقد من قال إن السياسة هي فقط ما نطق بها الشرع، حتى اتهمهم بأنهم ضيعوا حقوق الناس وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد. وقال قولته الشهيرة: إن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض. فإذا ظهرت أمارات الحق، وقامت أدلة العقل، وأسفر صبحه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه
ورضاه وأمره. والله تعالى لم يحصر طرق العدل وأماراته في نوع واحد، وأبطل غيره من الطرق التي هي أقوى منه وأدل وأظهر.. فأي طريق استخرج بها الحق ومعرفة العدل وجب الحكم بموجبها ومقتضاها.
قلت في مقال لك إن الفلسطينيين حققوا إنجازا مهما حين وافقوا على إعلان مكة، ودعوت إلى وجوب التمسك بهذا الاتفاق، لماذا هذه الدعوة، ومن يريد الالتفاف على الاتفاق ووأده؟
أولا، هناك قوى فلسطينية حريصة على إقصاء حماس، من ناحية ثانية، هناك قوى دولية، متمثلة في الولايات المتحدة الأمريكية بالدرجة الأولى لا تريد إنجاح الاتفاق، باعتبار بعض الجهات المشتبكة مع الحركة الإسلامية لا تريد نجاحا لأي حركة إسلامية في أي نظام سياسي آخر، ولهذا هناك مصادر متعددة تريد محاولة إفشال التجربة، ولكن، على الأقل قيادة فتح، وقيادة حماس حريصة على إنجاحه.
باطلاعك على تجربة الحركة الإسلامية في شقها السياسي المتمثل في حزب العدالة والتنمية، وشقها الدعوي متمثلا في حركة التوحيد والإصلاح، ما تقييمك لهذه التجربة؟
لنقل أولا، إن التجربة تحتاج إلى وقت حتىكلمة سيئةم عليها، ولكن، هناك أكثر من عنصر يجب وضعه في الاعتبار. الأول، أنه في المغرب هناك قدر وهامش من الديمقراطية يسمح بإضفاء الشرعية على مثل هذا النشاط، وهذا الأمر تستفيد منه الحركة الإسلامية.
الأمر الثاني، في نفس الوقت، هناك اتجاه داخل الحركة الإسلامية يدعو إلى التمييز بين الأنشطة المختلفة، وردّد هذا داعية بحجم يوسف القرضاوي، وقال: إنه لا يستطيع أن نجد حركة تحمل الإسلام كله: السياسة، والدعوة، والاقتصاد، والتربية، والخدمات، ولهذا فهناك توجه للتمييز بين الأنشطة.
إصلاح المناهج الدراسية، والتدخل الأمريكي بهذا الخصوص، وإزالة بعض الأحاديث والآيات القرآنية التي تزعج الولايات المتحدة الأمريكية؟ هل دعاوى فرض هذا الإصلاح ستصمد، أم ستجد مقاومة وممانعة في هذه الدول؟
هناك نقطتان: النقطة الأولى، أن هذا تعبير عن عجز وهشاشة الأنظمة السياسية الموجودة التي تقبل الإملاءات من هذا القبيل.
والأمر الثاني أن هذا يضر ولا ينفع، قلت: بدلا من تأطير ''الجهاد'' ضعوه في صيغة رشيدة في مكان صحيح، لأنه أحيانا إذا ألغيت الجهاد، فهذا خداع للنفس، سيبقى في السراديب وفي المناطق المظلمة، وهذا أخطر، لأنه بدل أن تقول إن الجهاد هو جهاد للنفس، وهو مراتب، وأنه ليس فقط قتال، وأن له أنواع متعددة، فابن القيم تحدث عن 13 مرتبة، وهناك من تحدث عن عشر مراتب، بدل أن تشرح بشكل عاقل وتضعه في إطاره المتوازن، تقصيه تماما، ومن ثم تدفع الناس إلى أن تحصِّله وتفهمه بطرق أخرى.
فهمي هويدي الكاتب، متى يكتب مقالاته؟
أنا ليس عندي عمل الآن غير القراءة والكتابة، فأنا أكتب كل يوم، وأحاول أن أؤدي التزاماتي، تجاه القارئ سواء كنت مسافرا أو مقيما. طبعا، أنا كلما أقرأ.. أقرأ كأي تلميذ للكتاب ، يأخذ ملاحظات يسجل، ويراكم عمله، ولديه عناوين جاهزة تتحرك بمقتضى الأحداث الموجودة، وأحيانا القناعات، وأحيانا المناسبات السياسية. وأنا أكتب في الصحف اليومية، فهي لا تستطيع أن تنفصل عن الناس، وهذه الأشياء كنت أكتبها في مجلة شهرية ''العربي''، لكن القارئ للصحافة اليومية يتوقع خطابا قريبا من مداركه، والمسار الذي يؤثر على إدراكه، وبالتالي تختلف الكتابة من منبر إلى منبر، وحسب الطبائع والأوضاع السياسية في كل بلد.
ما الذي أثر في تكوين وفكر الصحافي والكاتب فهمي هويدي؟
أنا من أسرة لها انتماؤها الإسلامي المبكر، فأبي كان في الهيئات الأساسية للإخوان المسلمين، وأنا نشأت في هذه البيئة، وأنا ابن بيئتي، فلم تحدث عندي تحولات. وأتاح لي العمل الصحافي أن أتحرك على مساحات متعددة، ووجدت أن الدفاع عن قضايا الحرية والديمقراطية من منطلق إسلامي ''هذا موضوع مهم للغاية'' لأن الكثير من الكتاب الذين ينتمون إلى الصف الإسلامي يرسلون الكلام في ما هو عقيدي مباشر، أو دعوي مباشر، لكن، أعتقد أن الاقتراب من القضايا الحيوية والدفاع عن الفقراء والمستضعفين وعموم المجتمع هذا تمهيد للمشروع الإسلامي، خصوصا حينما ينطلق الكاتب من إدراكه للموضوع. هذه قضايا مهمة للتوجه الإسلامي بشكل عام.
هل ما يزال فهمي هويدي وفيا لخط ومنهج ''الإخوان المسلمون''؟
أنا تعلمت في مدرسة الإخوان المسلمين، وأنا أعتبر أن الإخوان المسلمين وسيلة، فأنا ملتزم بالمشروع الإسلامي تحت أية راية، ولهذا أنا لم أرتبط بعلاقة تنظيمية مع الإخوان، لاقتناعي بأن العمل الإسلامي له أبواب متعددة، وأحيانا يتجاوز الحركة، فضلا عن كون استقلالي يسمح لي بنقد الحركة دون تأنيب ضمير، أو دون مخالفة تنظيمية، وهذا يخدم المشروع.. والمشروع عندي أهم من الحركة.
هذه الكبوات والسقطات التي تتجرعها الأمة. ما السبيل للنهوض منها، والخروج من الأزمة التي تعيشها الأمة؟
أولا، لا بد من الÏانسانفي المشروع من زاوية الدفاع عن الحرية والديمقراطية، لأنها مهمة في تحديد خيارات الناس، ولأن التحديات الراهنة جسيمة، ثم بتوسيع نطاق المشترك مع الآخرين، والاحتشاد الوطني لمواجهة التحديات في الداخل أو الخارج.
كلمة لقراء "التجديد":
أقول دائما إنه على الناس أن يدركوا أن المشروع الإسلامي هو الهدف النهائي، والهدف النهائي يتعين الوصول إليه عن طريق المرور عبر أشواط متعددة، فينبغي أن يسعى الناس إلى التحرك دون أن يأخذههم الهدف النهائي أو البوصلة النهائية، وأفضل دائما التركيز على القضايا الحياتية للمسلمين وللمجتمع، وللعمل في إطار الاحتشاد الوطني مع الآخرين، والاستمرار في الالتصاق بالواقع الاجتماعي، ودعم الالتصاق بالمجتمع أكثر من التطلع إلى مراتب السلطة.
محمد زكريا القاضى- عضو فعال
- عدد الرسائل : 142
نشاط العضو :
تاريخ التسجيل : 17/08/2007
مهزلة» يحلم بها كل عربي!
مهزلة» يحلم بها كل عربي!
لم نعتد في العالم العربي المعاصر أن نشهد انتخابات رئاسية لا نعرف نتيجتها مسبقا، وإذا تعدد المرشحون المنافسون للرئيس في أي فيلم ديمقراطي، فلا يخطر على بالنا ان يخسر السباق الرئيس القابض على السلطة، أما الذي لا يكاد يصدق، ونعتبره من عجائب الزمان، أن يستولي أحد العسكر على السلطة، ثم يتنازل عنها طواعية لصالح رئيس مدني ينتخبه الشعب، وهى «العجيبة» التي تكررت مرتين فقط في تاريخنا المعاصر، مرة حين انقلب الفريق سوار الذهب على نظام الرئيس السوداني جعفر نميري سنة 1985، ثم سلم السلطة للمدنيين، ومرة ثانية حين أطاح العقيد علي ولد محمد فال الرئيس الموريتاني ولد الطايع سنة 2005، ووعد بالانسحاب من السياسة ومن الجيش بعد الانتخابات الرئاسية التي جرت هذا الأسبوع، ولم يشارك فيها.
ولكي أكون صريحا، فإنني أقر وأعترف بأنني لست واثقا تماما من وفاء العقيد ولد محمد فال بوعده إلا إذا أعلنت النتائج النهائية للانتخابات الرئاسية في نواكشوط، ورأيت بعيني الرجل وهو يسلم السلطة إلى الرئيس الجديد، ثم تأكدت من أنه حل المجلس العسكري الذي يرأسه، وعاد إلى بيته بعد ذلك. صحيح أن الخطط التي اتخذت حتى الآن ماضية في ذلك المسار، إلا أن خبراتنا الطويلة مع الحكام الذين يعجزون عن مقاومة إغراء السلطة في اللحظة الأخيرة، تدعونا إلى التريث والحذر، إذ من يدري، فلربما رجع الرجل في آخر دقيقة وقرر استعادة سلطته وصلاحياته، «استجابة لرغبة الجماهير»، وحرصها على ضمان استمرار مسيرة التنمية والرخاء التي بدأها.. الخ.
هذا الشك ليس نابعا من فراغ، لأننا تعلمنا، منذ دخلنا عصر الانقلابات العسكرية أن كل رئيس يتسلم السلطة يعلن في البداية زهده فيها، وشكواه من ثقل مسئولياتها التي تحرمه من الاستمتاع بحياته العائلية وممارسة أنشطته الإنسانية العادية، لكنه بمرور الوقت يستعذب المنصب ويزداد تشبثه بالكرسي، ولا يعدم بطانة تشجعه على ذلك، بدافع الحرص على ما تتمتع به من ميزات ووجاهات، كما تلح على مسامعه قائلة ان ثمة مصالح عليا للبلد تفرض عليه أن يبقى، وانه لكونه ضحى بحياته على أن يغير الوضع الذي انقلب عليه، فأهون من ذلك أن يضحي براحته من أجل إسعاد الملايين، التي بدونه ستشعر باليتم، وستعاني الإحباط والكآبة.. إلى آخر المعزوفة التي حفظنا مضمونها ومفرداتها.
الشارع العربي في اكثر من قطر مر بهذه التجربة، وعايش أحداث «الفيلم» الذي كان مضمونه واحدا، ونهايته واحدة، ولكن ما اختلف فيه هو الإخراج فقط، ولأن المسألة معهودة ومحفوظة، فلن أستعيد التفاصيل التي بات يعرفها الجميع، ولم تعد تقنع أحدا أو تنطلي عليه.
هذا الاحتيال واحتكار السلطة أصبحا من سمات دول العالم الثالث، لكن الأمر لم يخل من استثناءات في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وما جرى في السنغال وموريتانيا خلال الأسبوعين الأخيرين من نماذج تلك الاستثناءات التي تذكرنا بأن عالمنا سيئ الحظ لا تزال فيه ومضة أمل، غير أن الملاحظة المهمة في هذا الصدد ان ذلك الاستثناء لم يعرفه المشرق العربي حتى الآن، حيث لم نر في نصف القرن الأخير أية انتخابات رئاسية حرة، نعم عرفنا صورا مختلفة من الانتخابات التشريعية والبلدية التي اتسمت بدرجات متفاوتة من النزاهة، الأمر الذي سمح لشرائح المجتمع المختلفة بأن تمثل في تلك المواقع، إلا أن المشاركة لم تتجاوز تلك الحدود، وبالتالي فإننا لم نعرف تداولا للسلطة في الجمهوريات التي تعاقبت في مشرقنا العربي طيلة تلك الفترة، (موريتانيا استثناء في المغرب)، إذ ظل انتقال السلطة يتم بإحدى طريقتين التوريث أو التدليس، والطريقة الأولى معروفة ولا تحتاج إلى شرح، أما الثانية فهي تتمثل في الانتخابات الوهمية التي تجرى، لكي تأتي بنفس الأشخاص أو سلالتهم، بحيث تظل الطبقة الحاكمة كما هي، وتظل البطانة في مواقعها من دون أدنى تغيير، وهو ما يتم بالقانون أحيانا وبالتزوير والقوة في أحيان أخرى كثيرة، الأمر الذي حول القيادة في تلك الأقطار إلى قدر مكتوب ومرسوم، لا شأن لاختيار الناس فيه.
لماذا لم يحدث ذلك الاستثناء في مشرقنا العربي؟
يستحق السؤال أن يكون موضوع بحث من جانب المتخصصين، لكني استبعد ابتداء ذلك التفسير الساذج الذي يروج له بعض المستشرقين، ممن روجوا لمقولة «الاستبداد الشرقي»، ضمن قائمة النقائص التي عددوها في مجتمعاتنا، حين لم يروا فيها خيرا أو فضيلة، فليس صحيحا أن الاستبداد يمثل عنوانا دائما لتاريخ أمتنا، وإلا لما صنعت حضارتها التي شهد بها المنصفون، ولم ينكرها سوى الكارهين والجاحدين، ناهيك أن تراثنا الثقافي ـ مرجعيتنا الدينية بوجه أخص ـ تفرد بتحريض الناس على مواجهة الظلم والاستبداد بكل صوره، وانذر الذين ينصاعون للظلم ويستسلمون بعذاب الله في الآخرة، حتى عرفت بعض مدارسنا الفقهية ما سمي بفقه «الخروج» على الحكام الظلمة. في الوقت ذاته، فإن أقطارا مثل مصر وسوريا ولبنان مرت بمراحل تمتعت خلالها الشعوب بقدر معتبر من الحرية السياسية، تشكل استثناء واختراقا لوصمة الاستبداد المخيمة.
وإذ ما زلت عند رأيي في أن الأمر يحتاج إلى مناقشة موسعة، فإنه إذا جاز لي أن أدلي بدلوي في الموضوع، فإنني أزعم أن عاملين مهمين أسهما بدور أساسي في صناعة الوضع السياسي المحزن الذي وصلنا إليه، الأول هو الانقلابات العسكرية التي أضعفت مجتمعاتنا بشكل فادح، الأمر الذي أدى إلى إماتة خلايا العافية فيها، وأفقدتها حالة الممانعة للاستبداد، فقد صادرت تلك الانقلابات الأحزاب السياسية، ووظفت السلطتين التشريعية والتنفيذية لحسابها، وأممت النشاط الاقتصادي وألغت دور النقابات المهنية والعمالية. وإذا أضفنا الى ذلك التطور الحاصل في قوة الدولة وآليات جبروتها، فإننا سنخلص إلى أن المجتمعات التي أخضعت لحكم العسكر جرى اقصاؤها سياسيا، الأمر الذي جعلها تستسلم للخضوع وتعجز عن أي مقاومة بمضي الوقت، ومن ثم، فإن التعافي من تلك الحالة أصبح يحتاج إلى علاج يستغرق وقتا طويلا.
السبب الثاني أن منطقة المشرق العربي بالتحديد صارت مسرحا لعاملين يمثلان مصلحة جوهرية لقوى الهيمنة في العالم؛ وعلى رأسها الولايات المتحدة. العامل الأول هو النفط، الذي لا يزال عصب الصناعة في الغرب، وبغيره تشل الحياة وينهار صرح النهضة الصناعية الهائل في أقطاره، أما العامل الثاني فهو إسرائيل، التي استخدمت نفوذها في ربط مصير الغرب في المنطقة بمصيرها.
بسبب هذين العاملين، النفط وإسرائيل، فإن الدول الغربية؛ وعلى رأسها الولايات المتحدة توافقت على أن يظل المشرق منطقة نفوذ، يتعين الحفاظ على خرائطها السياسية ثابتة كما هي، طالما أنها لا تخل بمصالحها، الأمر الذي يعني أن أي تغير فيها يظل مرهونا بمدى استجابته لتلك المصالح، وبطبيعة الحال فإن التغيير المفترض، إذا كان يشتم منه أي تهديد للمصالح المفترضة، يجب أن يتم اقصاؤه وقمعه بكل قوة وبلا هوادة.
لأن الأمر كذلك، فإن الكلام عن الديموقراطية يجب من وجهة نظرهم أن يستقبل بحذر شديد، ويرحب به في حالة واحدة، هي أن تسفر الديمقراطية المرجوة عن الحفاظ على المصالح الغربية كما هي، وفي تجربة الانتخابات الفلسطينية شاهد يعزز ما تقول، فتلك «ديمقراطية خطأ»، لأنها أتت بأناس يتحدثون عن المقاومة لاستخلاص الحق ويرفضون الاعتراف بإسرائيل. ولذلك استحقت العقاب والحصار والتجويع، إلى أن تمتثل في النهاية وتخضع للإرادة الإسرائيلية والغربية، المتمثلة في قرارات الرباعية.
إذا عدنا إلى مشهد الانتخابات الموريتانية الذي دفعنا إلى ذلك الاستطراد، سوف يستوقفنا موقف الزعيم الليبي معمر القذافي منها، وموقف الرأي العام العربي الذي عبرت عنه التعليقات التي حفلت بها مواقع الانترنت.
فالأخ العقيد وصف الانتخابات الموريتانية بأنها «مهزلة»، لأنها اعتمدت النظام الديمقراطي التعددي في شكله الغربي، ولم تمض على درب المؤتمرات الشعبية المطبقة في ليبيا، وربما استغرب العقيد القذافي أن يأتي عسكر إلى السلطة في موريتانيا وبعد سنة يغادرونها، ويجرون انتخابات يتنافس عليها 19 مرشحا، يصبح واحدا منهم رئيسا للبلاد، ومن وجهة نظره، فذلك استغراب في محله، لأنه باق على رأس السلطة في ليبيا منذ عام 1969، ولا يخطر على بال أحد انه يمكن أن يغادرها. من هذه الزاوية فإن الأمر يبدو مهزلة فعلا ـ إذ لا يقبل منطق أن يجهد القائد العسكري نفسه ويغامر لكي يقبض على السلطة، ثم يفرط فيها بهذه السهولة، إلا إذا لم يكن جادا فيما أقدم عليه!
أما تعليقات المواطنين العرب التي وقعت عليها من خلال مواقع الانترنت فهي حافلة بمشاعر البهجة والحسرة، البهجة إزاء الخطوة الاستثنائية التي أقدم عليها العقيد ولد محمد فال، والحسرة لأن المواطنين العرب يفتقدون إلى تكرار ذلك النموذج في بلادهم، وقد استوقفني في تلك التعليقات ما كتبه مواطن مصري في موقع الإذاعة البريطانية، حيث قال: «لو لم أكن مصرياً لوددت أن أكون موريتانياً، مستخدماً في ذلك مقولة الزعيم المصري مصطفى كامل، «لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا».
مع احترامي لرأي الأخ العقيد ولتجربة المؤتمرات الشعبية، فإنني لا أتردد في القول إن المهزلة التي وقعت في موريتانيا أصبحت حلمَ كل مواطن عربي في هذا الزمن.
محمد زكريا القاضى- عضو فعال
- عدد الرسائل : 142
نشاط العضو :
تاريخ التسجيل : 17/08/2007
ثقافة الاستسلام
<BLOCKQUOTE>لنعترف: أصبحت ثقافة الاستسلام أحد معالم الزمن العربي الذي نعيشه، حتى غدت وباء ظهرت أعراضه في العديد من الأقطار
العربية. لذلك أزعم أن كتاب الأستاذ بلال الحسن الذي صدر تحت ذلك العنوان بمثابة وثيقة مهمة تفضح خطاب الاستسلام كما عبرت عنه بعض "مراجعه".
(1)
كنت قد أشرت إلى مضمون الكتاب قبل اسبوعين، في سياق استعراض الشواهد والقرائن التي تسوغ وصف العام المنقضي بأنه "عام الاختراق الكبير"، ولفت نظري فيما تلقيته من أصداء ورسائل بعد النشر ثلاثة أمور. الأول أن ما اسميته بمثقفي "المارينز" ليسوا مقصورين على مصر وحدها، ولكن أصبح لهم وجودهم وخطابهم المكشوف في طول الأمة العربية وعرضها، من المحيط إلى الخليج، الأمر الذي يعطي انطباعاً قوياً بأن ثمة خللاً ما في أوساط المثقفين العرب.الأمر الثاني أن عدداً غير قليل من الرسائل التي تلقيتها طالبني بعرض كتاب "ثقافة الاستسلام" لبسط حقائقه أمام الناس. أما الأمر الثالث فقد كان دعوة إلى تشكيل تجمع ثقافي عربي باسم مناهضي الاستسلام، على غرار التجمعات الأخرى القائمة مثل مناهضي العولمة ومناهضي التطبيع.
وإذ أحيل الاقتراح إلى من يهمه الأمر من "النشطاء" لبحثه والتحقق من جدواه، فإن استجابتي ستكون محصورة في عرض مضمون الكتاب الذي صدر في بيروت قبل أسابيع قليلة. وكنت قد أشرت إلى أنه قدم قراءة نقدية لأفكار وخطاب خمسة من الكتاب العرب في أقطار مختلفة هم: كنعان مكيه (العراق) - حازم صاغية (لبنان) - صالح بشير والعفيف الأخضر (تونس) - أمين المهدي (مصر).
أما كتابات هؤلاء العرب فهي بالدرجة الأولى مقالات نشرتها صحيفة "الحياة" اللندنية، خلال السنوات الخمس الأخيرة، وتعلقت أساساً بالصراع العربي - "الإسرائيلي"، والعلاقات العربية الأمريكية. وما فعله بلال الحسن أنه جمع الأفكار المتناثرة التي عبر عنها كل واحد منهم في كتاباته، وضمها جنباً إلى جنب، الأمر الذي بين من خلاله للقارئ حقيقة وأبعاد الصورة المراد طبعها وترسيخها في أذهان المتلقين. ولم تكن المشكلة في طبيعة أو شطط الأفكار التي اقتنعوا بها، فكل واحد حر في قناعاته الشخصية، ولكنها كانت بالدرجة الأولى في تسويق تلك الأفكار، وبلبلة القراء بواسطتها، ومن ثم إشاعة ثقافة الهزيمة والاستسلام بين الناس.
(2)
خلاص العراق يكون بنبذ العروبة وإقامة الفيدرالية، أما خلاص الأمة العربية فيكون بالتخلي عن فكرة القومية العربية والتطبيع مع "إسرائيل". هذه هي الفكرة المحورية في كتابات كنعان مكية، الباحث العراقي الأصل، الذي يقيم في الولايات المتحدة، ولكنه يحمل الجنسية البريطانية، وهو من خصص له مؤلف الكتاب الفصل الأول، الذي تضمن عرضاً لأفكاره منذ ان بدأ حياته السياسية معارضا لنظام الرئيس السابق صدام حسين، وصار لاحقاً عضواً نشطاً في الترتيبات الأمريكية للإطاحة به، ولإعادة رسم خريطة المنطقة العربية من بعده.في عام ،91 بعد حرب الخليج الثانية وقيام الانتفاضة الشعبية العراقية التي نجح نظام صدام حسين في القضاء عليها، نشر مكية مقالاً دعا فيه الى إقامة نظام علماني في العراق يغلب عليه التشيع باعتباره وصفاً أمثل، لأن العلمانيين الشيعة أقل انجذاباً للقضايا القومية، زاعماً في هذا الصدد أن "العروبة هي شأن سني إلى حد بعيد". وكانت تلك هي المرة الأولى التي تطرح فيها فكرة الانتقاص من عروبة العراق، على أساس من التحليل الطائفي.
استمر مكية يدعو إلى فكرته في كل مناسبة. إذ في دراسة قدمها إلى معهد "أمريكان انتربرايز" بواشنطن (3/10/2002) كرر فيها قوله ان العراق "يجب أن يكون لكل ابنائه، مما يتطلب أن يكون عراقاً غير عربي" - كما أنه لن يكون ديمقراطياً إلا إذا كان فيدرالياً. (بين العرب والأكراد).
الفكرة استقبلت بترحيب ملحوظ في الدوائر الأمريكية، حولت صاحبها إلى واحد من المتحدثين البارزين عن مستقبل العراق في مراكز الأبحاث ومعامل اتخاذ القرار. ورفع من رصيده لدى تلك الدوائر أن الرجل أقام علاقة جيدة مع "الإسرائيليين"، وزار تل أبيب عدة مرات، التي منحته جامعتها شهادة الدكتوراه الفخرية.
في تطوير لفكرته ربط مكية بين وجود الأنظمة العربية المستبدة وبين الصراع العربي - "الإسرائيلي"، (كأن العالم العربي لم يعرف الاستبداد - في اليمن مثلاً - قبل ميلاد "إسرائيل") - وبنى على ذلك أنه لكي يتخلص العرب من الاستبداد، فيتعين عليهم أن يتخلوا عن صراعهم مع "إسرائيل". وفي رأيه أن ذلك لن يتحقق إلا إذا تخلصوا مما اسماه "ايديولوجية القومية العربية"، وما استصحبته من دعوات للتضامن أو الوحدة العربية.
في هذا السياق فإنه يدعو إلى نسيان الماضي وتجاوز التاريخ وبالتالي غض الطرف عن كل ما جرى في فلسطين طيلة القرن الماضي، ومن ثم التطلع إلى المستقبل وحده والتعلق بآماله ومنافعه. في هذا الصدد يقول ما نصه: "يتطلب البدء بتكلم لغة السلام (مع "إسرائيل") إعطاء الأولوية لحاجات المستقبل بدل مفاهيم وتفاسير الماضي، بما في ذلك مشاعر الظلم أو المرارة المشروعة التي يشعر بها الكثير من الفلسطينيين... علينا أن ننبذ بصورة نهائية تلك السياسات القائمة على التشبث المهووس بالتاريخ، وما فيه من مظالم" - (لاحظ أنه يطالب العرب وحدهم بنسيان التاريخ، ولا يطالب "الإسرائيليين" الذين كل مشروعهم خارج من رحم التاريخ).
هكذا، فإن كنعان مكية يبدأ من معارضة النظام العراقي، لينتهي إلى ضرورة التخلي عن كل افكارنا، من الانتماء العربي إلى إدراكنا لعدالة القضية الفلسطينية، معتبراً أن قبول الفلسطينيين والعرب بشروط "إسرائيل" والتطبيع معها هو ترجيح لمنطق "المنفعة الذاتية". وفي نظره فإن الذين يرفضون هذا المنطق بحجة "المصلحة العامة"، هم دعاة تدمير وحروب أهلية (حربجية كما قال أحدهم في مصر).
(3)
خيط التطبيع المجاني مع "إسرائيل" الذي دعا إليه مكية رصده المؤلف في مقالات مشتركة كتبها كل من حازم صاغية وصالح بشير. وهما يبسطان المسألة على النحو التالي:- الافتراض الأساسي أن "الإسرائيليين" (المتفوقين اقتصادياً) لا يجدون في العالم العربي اليوم الجاذبية التي تطلق حماسهم للسلام معه. باعتبار أن المنطقة العربية ليست مثالاً يحتذى في أي شيء!، خصوصاً في ظل هيمنة الثقافة غير الديمقراطية عليها الأمر الذي "يؤسس قاعدة صلبة لعجزنا عن مخاطبة الرأي العام "الإسرائيلي"".
- إضافة إلى ذلك فإن "فكرة السلام بذاتها ما تزال مرفوضة في المنطقة، وهذا يصح على العرب، كما يصح على "الإسرائيليين""، ف "الإسرائيليون" يرفضون السلام بسبب "الهواجس الأمنية"، والعرب يرفضونه بسبب "نبذ التطبيع".
- العرب لا يستطيعون حل مسألة الهواجس الأمنية لأنهم لا يملكون القوة. وبسبب قوة "إسرائيل" العسكرية والاقتصادية فإن العرب يصبحون الطرف المتضرر من ابتسار العملية السلمية. "وإذا كان المأزق الراهن عربياً أولاً وأخيراً، فإن مسؤولية المبادرة بالخروج منه تقع على الجانب العربي".
- إزاء ذلك "ربما أصبح التطبيع الوسيلة الوحيدة المتاحة بين أيدي الجانب العربي... والوسيلة التي تسبق بقية مراحل السلام، لا أن تكون ناتجة عنها" - أما المبادرة إلى ذلك فهي بيد المثقفين و "الحيز الثقافي".
هذا التشخيص أورده الكاتبان في وقت مبكر نسبياً (مقالة نشرت في 1/8/97 تحت عنوان "لا بد أولاً من تذليل عقبتي الأمن والتطبيع")، وفيها اعتبرا أن المشكلة عند العرب، وعليهم أن يبادروا إلى حلها، بإشاعة الثقافة الديمقراطية والمبادرة إلى التطبيع مع "إسرائيل" لكسب ثقتها، وهذا التطبيع ينبغي أن يبدأ ثقافياً، بنسيان القضية الفلسطينية والقفز فوقها.
ثمة نص آخر غريب نشر للكاتبين (في 18/12/2000) اعتبرا فيه أن الانتفاضة الفلسطينية من تجليات معركة العرب ضد الحداثة - والحداثة في هذه الحالة هي "إسرائيل". وذهبا في هذا الصدد إلى القول إن الانتفاضة حركة دون حداثة، في حين أن "إسرائيل" حداثة دون حق.
في المقالة المشتركة أشارا إلى متوازيات بين الموقف "الإسرائيلي" والفعل الفلسطيني على النحو التالي:
- الحداثة دون حق "إسرائيل" توازي الحق دون حداثة (الانتفاضة).
- السلوك "الإسرائيلي" يندرج في خانة اندرجت فيها الامبراطوريات الاستعمارية والحالة النازية، واستلهام الهمجية الأولى - أما الانتفاضة فتندرج في خانة الاحترابات الأهلية والدينية.
- سياسة "إسرائيل" تترك حدود الدولة - الأمة معلقة على التوسع. وسياسة الانتفاضة عرضة للانكفاء عن الدولة - الأمة، والنكوص عنها إلى جماعة دموية أو دينية.
ليس ذلك فحسب، وإنما تدين المقالة مواجهة العرب للاستعمار، وتعتبر أن الانتفاضة ضد حداثة "إسرائيل" بمثابة امتداد لمنهج عربي وقف ضد الاستعمار (الغرب) رافضاً الحداثة التي يمثلها. وتخلص إلى نتيجة تطالب بضرورة المفاضلة بين تكاليف مكافحة الغرب وبين انعكاس ذلك على صلتنا بالحداثة، بحيث إذا تبين أن خسارتنا الأكبر في هذه الحالة، عزفنا عن المواجهة والمكافحة.. وهو التحليل الذي يدعونا في نهاية المطاف إلى القبول بالاستعمار والقبول باحتلال "إسرائيل".
بعد الضوء الذي سلطه على موقف الكاتبين، تتبع المؤلف كتابات حازم صاغية الرافضة لفكرة الثورة والنضال، والداعية إلى التحالف مع الاستعمار "حتى لا نبقى خارج الحداثة".. الأمر يخلص منه القارئ إلى ان الفشل العربي في مواجهة الحركة الصهيونية وقيام دولة "إسرائيل"، لا تتحمل مسؤوليته القوى الاستعمارية التي دعمت الحركة الصهيونية وفتحت لها أبواب الهجرة إلى فلسطين، بل يتحمل العرب مسؤوليته، لأنهم اختاروا ألا يتحالفوا مع الاستعمار، ومن ثم بقوا خارج الحداثة ودونها.
في مسعى تفكيك القضية الفلسطينية وتفريغها من مضمومنها، فإن الكاتب يقلل من أهمية الاستيطان وتقطيع الأراضي الفلسطينية، مدعياً أن الجغرافيا لا أهمية لها، وأن الأهم هو السلام. وفي الوقت ذاته فإنه يدعو إلى إبعاد ملف اللاجئين عن أي تعامل مع القضية الفلسطينية، محبذاً فكرة إسقاط حق العودة لهم. ثم انه يتهم مجتمعاتنا بالتخلف لأنها لم ترتق بعد إلى مستوى القبول بالتطبيع، ويذهب إلى أنها تعظم "الشهادة"، لأنها مجتمعات زراعية تعيش ثقافتها على هامش الفولكلور.
أكثر من ذلك فإن الكاتب حين يتحدث عن أهمية التطبيع الثقافي، فإنه يدعونا إلى إعادة النظر في مشروعية وجود "إسرائيل"، بحيث ترى كحق وليس كأمر واقع؛ ذاهباً في هذا الصدد إلى أن لها الحق في الوجود بالمنطقة العربية كما للسوريين واللبنانيين والعراقيين. لأن وجودها هو من نتائج الحرب العالمية الأولى، كما أن وجود لبنان وسورية والعراق (كدول) هو من نتاج تلك الحرب - (لاحظ أن الكاتب يتجاهل حقيقة أن الدول العربية المشار إليها لم تغتصب أرض أحد، ولم تستجلب شعوبها من الخارج وتطرد أصحاب الأرض كما في الحالة "الإسرائيلية") - ثم ان وجود "إسرائيل" هو أيضاً من نتائج المحرقة النازية في الحرب العالمية الثانية، التي تمثل مأساة إنسانية كبرى، لا بد أن يتعاطف معها العرب، على نحو يجعلهم "يتفهمون" الأسباب والمبررات الأخلاقية لقيام دولة "إسرائيل" (!؟).
(4)
"الشرق معقد لأنه ما زال محكوماً بجنون اللامعقول، الذي يجعل الرموز والمباني أقدس من الحياة. معقد هو الشرق لأنه لم يعرف بعد ثقافة السلام، أي التسامح، والتسليم بالحق في الاختلاف، والقدرة على وضع النفس موضع الآخر، لفهمه وتفهمه، للتفاوض معه لا مع النفس".هذا واحد من نصوص عدة قدم بها بلال الحسن الموقف الفكري للكاتب التونسي، الشيوعي السابق، عفيف الأخضر. وهو نص مفتاح، لأنه يفسر هجاء الأخضر وازدراءه لكل ما هو عربي وإسلامي، في الماضي والحاضر، ومن ثم حماسه المفرط لما هو أمريكي و"اسرائيلي" بطبيعة الحال. وهذا الحماس جعله ينحاز ضد المقاومة الفلسطينية، وبالذات العمليات الاستشهادية، ويتبنى الموقف "الإسرائيلي" الذي يتهم العرب بعامة والفلسطينيين خاصة بأنهم ضد السلام.
في التعبير عن إعجابه بالنموذج "الإسرائيلي" دعا الأخضر الفلسطينيين والعرب إلى "ممارسة ديمقراطية تستلهم النموذج "الإسرائيلي""، واعتبر أن "إسرائيل هي الحل" - قائلاً إن: "وجود "إسرائيل" في منطقة الشرق الأوسط يمكن تحويله من خطر إلى فرصة، بما هي دولة غنية (بالمعونة الأمريكية؟!) وحديثه وديمقراطية قد تكون قدوة حسنة لمحيطها الفقير، التقليدي واللاديمقراطي، وتكون قاطرته نحو الحداثة".. ومن خلال بناء "سياسة مشتركة... لإنقاذ البحث العلمي العربي.. لأن "إسرائيل" تضاهي الغرب في هذا المجال".. و "من خلال زراعة مشتركة، لأن تحديث الزراعة في "إسرائيل" يضاهي الغرب". و"من خلال سياسة اقتصادية مشتركة تنقلنا إلى عالم المعلوماتية". الأهم من ذلك كله أن "اسرائيل" - في نظر الكاتب - قادرة على أن تساعدنا على "تحديث اللغة العربية على غرار اللغة العبرية" (!) - مقالة نشرت في 24/7/1999.
ذلك كله - بما فيه تحديث اللغة العربية ! - يمكن أن يحدث للعالم العربي بشرط واحد: أن يسلم ل "الإسرائيليين" بما يريدون وينسى القضية الفلسطينية!
"خامسهم" كاتب هاو غير معروف في مصر اسمه أمين المهدي افسحت له جريدة "الحياة" صفحاتها حيناً من الدهر - (صار يكتب بعد ذلك في بعض الصحف الطائفية و"الإسرائيلية") - فنشرت له مقالات محدودة خصصها لهجاء العرب والتغزل في الحركة الصهيونية والإعجاب المفرط ب "إسرائيل" إلى حد الدفاع عن الاستيطان، الذي اعتبر أنه زحف إلى فلسطين، بعدما "تبلورت أسسه الاجتماعية في إطار فكر متحرر أوروبي النشأة". وفي كتاباته ردد مختلف المقولات التي سبق أن مررنا بها، ولكنه تفوق على أقرانه بامتداحه للحركة الصهيونية التي قال عنها في إحدى مقالاته (نشرت بالحياة في 11/2/2000): جاءت الصهيونية إلى بلاد العرب، عبارة عن ايديولوجية خلاصية شعبية. وهنا تكمن في دوافعها وجوانبها الانسانية.. وسلكت الصهيونية في التنفيذ مسلكاً علمانياً عقلانياً، مؤسسياً وديمقراطياً".
في مقالة أخرى كتبها صاحبنا ونشرها الموقع الإلكتروني لصحيفة "يديعوت أحرونوت" (في 11/11/2002) كتب مؤيداً النزعة الأمريكية الامبراطورية، واصفاً إياها بأنها تعبير عن "صعود عصر الشعوب" من خلال "تآكل مفهوم السيادة الوطنية". أما تطلع المسلمين إلى توحيد صفوفهم بعد سقوط الدولة العثمانية، فقد وصفه في مقالة تالية بأنه "محاولة لتحدي التقدم والاستعمار الذي طرحته الحضارة الأوروبية"!
إن المشكلة - للأسف - ليست فقط في الترويج لهذه الثقافة البائسة، ولكنها أيضاً في الأجواء التي هيأت مناخاً مواتياً لإطلاق ذلك القدر من السموم من خلال المنابر الإعلامية العربية. ويتضاعف الأسف إذا أدركنا أن تلك الجرعة من السموم جرى بثها من منبر واحد، فما بالك إذا جمعنا الكتابات المماثلة التي حفلت بها المنابر الأخرى.
"الخليج"
</BLOCKQUOTE>
محمد زكريا القاضى- عضو فعال
- عدد الرسائل : 142
نشاط العضو :
تاريخ التسجيل : 17/08/2007
الاستثمار الأجنبي ليس حلاً
الكلام الذي قاله رئيس الوزراء للقيادات الصحفية المصرية يقلقنا أكثر مما يطمئننا، ويثير من الأسئلة أكثر مما يقدم من إيضاحات وأجوبة، حتى أزعم أن أهم الأفكار التي طرحها تحتاج إلى تصويب، بعضه لنا وبعضه له.
(1)
لا يستطيع أى متابع أن يفصل بين اللقاء الذي تم بين الدكتور أحمد نظيف وبين القيادات الصحفية المصرية بالإسكندرية يوم الخميس الماضي - في عز الحر وقلب عطلة الصيف- وبين البلبلة الحاصلة في الشارع المصري بسبب الأوضاع الاقتصادية والأزمات التي طفت على السطح في الآونة الأخيرة، من جنون الأسعار إلى نقص مياه الشرب. ولست أشك في أن صدمة المجتمع المصري بالإعلان عن بيع بنك القاهرة بوجه أخص، كانت من بين العوامل التي دفعت رئيس الوزراء لترتيب ذلك اللقاء. وهو ما يعنى أن الهدف منه هو طمأنة الرأي العام المصري، بإيضاح ما التبس والرد على ما أثير من شكوك وتحفظات على أداء الحكومة وسياساتها.
استوقفتنى ملاحظات عدة في الخلاصة التي نشرتها "الأهرام" في عدد يوم الجمعة 17/8 لكلام الدكتور أحمد نظيف، فرجعت إلى ما نشرته صحيفتان قوميتان أخريان هما الأخبار والجمهورية للتثبت من دقة ما نسب إليه من تصريحات. ولم أجد خلافاً جوهرياً بين ما نشرته الصحف الثلاث، الأمر الذي رجح عندي أن نص الأهرام، لم يتضمن تحريفاً لكلام الدكتور نظيف. وهو ما يسوغ لي الاعتماد عليه في مناقشة ما صدر عنه، إلا إذا أراد هو أن يصححه، وهو ما لم يحدث خلال الأيام الثلاثة التي أعقبت النشر.
لن أتوقف عند الأرقام التي ذكرها عن تحسن الاقتصاد المصري، ليس فقط لأن العبرة بما يستشعره الناس وليست بما تسجله جداول الإحصاء، ولكن أيضاً لان دلالة الأرقام تختلف باختلاف زاوية قراءتها، ثم إن تباينها أو تناقضها يظل مصدراً دائماً للغط والتندر. وقد لاحظت مثلاً أن الدكتور نظيف قال فيما نشر على الصفحة الأولى في الأهرام إن معدل الغلاء انخفض من 12.4% إلى 8% في الوقت الراهن، في حين أن زميلنا الأستاذ فاروق جويدة ذكر في مقالته المنشورة على الصفحة 39 من العدد ذاته أن أسعار السلع الرئيسية ارتفعت بنسبة 60% في عام واحد. ولك أن تتصور حجم البلبلة والحيرة التي يعانى منها القارئ في هذه الحالة، بحيث لا يعرف من يصدق وأي رقم يطمئن إليه ويثق فيه!.. كما أنك قد تعذرنى إذا نحيت الأرقام جانباً وحصرت مناقشتي في حدود الأفكار التي عبر عنها رئيس الوزراء، واعتبرتها مقلقة وبحاجة إلى مراجعة وتصويب.
(2)
لقد استغربت مثلاً ما قاله الدكتور نظيف من أن الحكومة ليست لديها حساسية إزاء الاستثمار الأجنبي، في حين أن أى عقل سياسى في مثل ظروف بلادنا ينبغى أن يتعامل مع هذه الاستثمارات بمنتهى الحساسية والحذر. فلا يغلق الأبواب دونها بطبيعة الحال، وإنما يحرص على أن يوجه ذلك الاستثمار فيما يخدم التنمية ويعزز اقتصاد البلد، بحيث يفيد بقدر ما يستفيد، ويركز على الإنتاج وليس على المضاربة والسمسرة. ويتحرك في المجالات التي لا علاقة لها باستقلال البلد ومصالحه الاستراتيجية. وذلك كله لا يتم إلا من خلال استنفار القيادات المعنية مما يستصحب يقظة وأعينا مفتوحة جيداً، ورؤية سياسية تضبط المباح وغير المباح في مجالات ذلك النوع من الاستثمار.
أما الأغرب من ذلك فهو نظرة رئيس الوزراء إلى دور الاستثمار الأجنبي، الذي أعتبره أساسياً ومحورياً، وذكر أن مصر لن تنمو ما لم تنجح في جذب الاستثمارات إليها. ولا أعرف من الذي أقنع الدكتور نظيف بهذه الفكرة المغلوطة، لأن الاستثمار الأجنبي لا يحقق تنمية ولا يصنع ازدهارا وليس ذلك من أهدافه. وإنما هو يشارك فقط في التنمية ويجنى ثمار الازدهار. بالتالي فدوره مكمل وليس محورياً أساسياً. ومن الخطورة بمكان أن نرهن مستقبل التنمية في مصر بحيث يظل مصيره معلقاً على قدوم الاستثمارات الأجنبية. وأخشى أن يكون ذلك النمط من التفكير استنساخا للفكرة البائسة التي اعتبرت أن 99% من أوراق اللعبة السياسية في يد الولايات المتحدة الأمريكية، إذ إنه يعبر عن نفس الفكرة حين يعتبر أن 99% من أوراق حل المشكلة الاقتصادية في يد الاستثمار الأجنبى.
بكلام آخر فإن خطورة الفكرة تكمن في أنها تعبر عن عدم الثقة في الجهد المحلى، فتلغيه وتعول على العنصر الخارجى لتحقيق التنمية في البلد. وذلك خطأ جسيم باتفاق أهل السياسة والاقتصاد. وعلى حد تعبير أحدهم فإن المستثمر الأجنبي لن يفكر في وضع أساس المشروع التنموي لأي بلد، لأن هذه مهمة الجهد الوطني والادخار المحلى، لكنه سيأتى إذا وجد أساساً جيداً ومستقراً، وسيسهم فقط في تعلية طوابق المبنى. وهذا ما فعلته الصين، التي حققت أعلى معدل للتنمية في العالم (وصل إلى 12.10%)، وحين حققت ذلك الإنجاز فإنها لم تبلغه بفضل الاستثمار الأجنبي، وإنما كان الاستثمار المحلى هو الأساس الذي انطلق منه المشروع التنموي، إذ بلغت نسبته حوالي 45% من جملة الاستثمارات.
ولماذا نذهب بعيداً في التنظير وأمامنا النموذج الحاصل في مصر الآن. ذلك أن الاستثمارات الخارجية من بين الاسباب التي أشعلت نار المضاربة العقارية في البلد، حيث أصاب هذا القطاع مس من الجنون، أثار الفوضى والاضطراب في هذا القطاع وأحدث انقلاباً في سوق العقار، أضر كثيراً بالطبقة المتوسطة (لا تسأل عن الفقراء!)، التي أصبح المسكن بالنسبة لأفرادها حلماً بعيد المنال.
(3)
لا أعرف من الذي ورط رئيس الوزراء في الادعاء بأن الاستثمار الأجنبى هو الحل. كما أننى لا أعرف من الذي أقنعه بأن خياراتنا باتت محصورة بين اللجوء إلى التمويل الأجنبى أو الاقتراض من الخارج. مادامت المدخرات المحلية ضعيفة وعاجزة عن الإسهام في عملية التنمية. وهذه المقولة الأخيرة مست القضية لكنها لم تنفذ إلى لب المشكلة. لأن أحداً لم يسأل لماذا تراجعت المدخرات المحلية حتى عجزت عن القيام بدورها المفترض في التنمية. وهو السؤال الذي إذا وقفنا على إجابته زالت الحيرة وبطل العجب.
لقد قال الدكتور نظيف إن مدخرات المصريين لا تزيد على 16 % من الدخل القومي، وهذه نسبة لا تكفي لتحقيق معدلات النمو المطلوبة، وهذا صحيح لأن عجلة التنمية لا تدور بشكل جاد إلا إذا تراوحت نسبة المدخرات بين 25، 30%. على الأقل فذلك ما أثبتته خبرة الثلاثين سنة الأخيرة، في حالة الدول التي نهضت واعتبرت "نموراً آسيوية"، لكن ما لم يقله رئيس الوزراء أن المسؤول عن تراجع المدخرات ليس سلوك المجتمع، وإنما هو سياسة الحكومة الاقتصادية، وإسرافها الذي أوصل عجز الميزانية إلى ما بين 9 و 10% ، ولولا ذلك العجز لوصلت نسبة مدخرات المصريين إلى المعدل الذي يمكن أن يدفع عجلة التنمية بما يسهم في حل الإشكال.
بذات القدر فإنني لا أعرف من الذي ورط الدكتور نظيف في حكاية "المستشار المالى" الذي قال إنه "خبير الطرح" الذي سيتعامل مع ملف بنك القاهرة، وسيحدد "على مسؤوليته"- هكذا ورد النص في الأهرام - النسبة التي ستطرح للاستثمار، سواء لمستثمر عربي أو أجنبي، وهو ما لا يستبعد وجود نسبة كبيرة فيه للاكتتاب الشعبي.
لن أتحدث في مبدأ بيع البنك، الذي قيل لنا رسمياً قبل سنتين إنه لن يعرض للبيع. وعندي علامات استفهام كثيرة لم أعثر على إجابة مقنعة لها، حول جدية دوافع البيع وما إذا كانت هذه الخطوة مقررة من البداية، حين أدمج في بنك مصر عام 2005 ثم قيل لنا البنك المذكور استحوذ عليه ولن يذوب فيه. أم أن قرار البيع كان مفاجئاً في شهر يوليو عام 2007م.
لست وحدى الذي انتابته الحيرة في شأن هذه الخلفيات التي أثارت لغطاً لم يحسم بعد، ولكن حديث رئيس الوزراء عن "المستشار المالى" الذي سيحدد مصير البنك أضاف لغزاً جديداً إلى قائمة علامات الاستفهام المثارة. ذلك أن أى مستشار لا يضع الأهداف، وإنما هو يقدم خيارات متعددة لبلوغ الأهداف التي يحددها القرار السياسي. فقد يكون هدف القرار هو إعطاء الأولوية للاستقلال الوطني، وقد تكون مسألة التنمية الاقتصادية بأي ثمن هي الهدف المنشود، وقد يصبح توفير التمويل والسيولة هدفاً ثالثاً. بكلام آخر فإن تحديد الهدف من البيع -الذي هو قرار سياسى بحت- هو الخطوة الأولى التي في ضوئها يتحرك المستشار المالي، وليس صحيحاً ما ذكره رئيس الوزراء من أن خبير الطرح هو الذي سيتولى الموضوع على مسؤوليته، لأن المسؤولية الحقيقية يتحملها صاحب القرار الذي عليه أن يحدد للخبير الهدف الذي يتحراه والدائرة التي عليه أن يتحرك في إطارها.
(4)
المقلق في كلام الدكتور نظيف أنه كشف النقاب عن أن مشكلتنا ليست في السياسات المتبعة، وإنما هى في الرؤية الاستراتيجية المتعلقة بمسؤولية الجهد الذاتي، ودور رأس المال الأجنبي، وحدود التصرف في المال العام، والأهداف المتوخاة من بيع المؤسسات الاقتصادية.
يزداد ذلك القلق حين يلاحظ المرء أن قضية الإنتاج لا تحتل مكانتها المناسبة في استراتيجية الخروج من الأزمة، مع أنها جوهر المشكلة ومفتاح الحل. وواهم كل من يتصور أن المستثمرين أياً كانوا هم الذين سيحلون هذه المشكلة. والإعلانات الباذخة التي صرنا نطالعها في الصحف كل صباح خير شاهد على ذلك. فهي لا تتحدث إلا عن العقارات والمنتجعات والقرى السياحية والمجمعات التجارية، إلى غير ذلك من المشروعات التي لا تحقق تنمية ولا تصنع تقدماً، وتخاطب المستهلكين والمترفين وتنمى نوازع السفه والوجاهة الفارغة لدى الأثرياء، الذين تهافتوا خلال الأسابيع الماضية على شراء فيلات تنوى إحدى الشركات "الاستثمارية" إقامتها على الساحل الشمالى. وعرضت 40 منها على شاطئ البحر مباشرة. قيمة الواحدة تسعة ملايين جنيه، بيعت كلها وهناك 30 شخصاً في قائمة الانتظار يتلهفون على شراء ما سوف يستجد من تلك الفيلات، علماً بأن المشروع كله لا يزال مجرد رسومات على الورق، والأرض المبيعة مازالت صحراء رملية لم يقم فيها عمود واحد.
أحد أوجه المشكلة: الأزمة أننا ونحن نتحرك بخطى مترددة ومرتبكة على مسرح الأزمة نسارع إلى بيع الأصول الثابتة لعلاج مشاكل طارئة. فنفرط في رصيدنا الاستراتيجي لكي نتجاوز أزمات مرحلية، ومن ثم نضحي بالمستقبل من أجل حاضر لم ننجح في تشخيص دائه، وعجزنا عن أن نوفر له الدواء المناسب.
محمد زكريا القاضى- عضو فعال
- عدد الرسائل : 142
نشاط العضو :
تاريخ التسجيل : 17/08/2007
لأن مصر في خطر دائم
ليس مفهوما ان يسود مصر القدر الذي نشهده من الاسترخاء والانكفاء، في حين ان البلد في خطر داهم ودائم.
(1)
الدهشة من عندي والتذكير بالخطر الدائم المحيط بمصر قال به اثنان من اهم الباحثين الاستراتيجيين في تاريخ مصر الحديث، هما الدكتور حامد ربيع استاذ العلوم السياسية والدكتور جمال حمدان استاذ الجغرافيا السياسية. وكل منهما علم ومدرسة في مجاله. الاثنان تحدثا عن ان مصر تدفع ضريبة موقعها الاستراتيجي الحاكم. فالدكتور حامد ربيع في كتابه "نظرية الامن القومي العربي" ذكرنا بمصر التي كانت قلب العالم القديم، ونقطة الالتقاء بين القارات الثلاث افريقيا وآسيا واوروبا. الامر الذي حولها الى دولة معبر ودولة التقاء، ازدادت اهميتها بعد شق قناة السويس بحيث أضحت محور نظام الاتصال العالمي. وهو ما برز خلال الحربين العالميتين، خصوصا الحرب الثانية، فاستوعبته بريطانيا التي جعلت احد وزرائها يقيم في القاهرة، ولم تدرك المانيا تلك الحقيقة، فكانت هزيمتها في العلمين أحد المتغيرات الاساسية في قلب موازين القتال. ورغم التحولات التى طرأت لاحقا على الاستراتيجيات العالمية، إلا أن قناة السويس ظلت تتحكم في توازنات القوى العسكرية وخريطة التعامل مع القوى العظمى في العالم، بحكم دورها الضرورى والحاسم في الربط بين المحيط الهندى والبحر الابيض المتوسط. وهى الخلفية التى تفسر لنا لماذا مصر دائماً في خطر، ذلك ان الاهمية تخلق الاهتمام. والاهتمام ليس إلا نقطة بداية لما لا حصر له من مساعى الاحتواء والاخضاع من جانب القوى العالمية ذات المصالح والاطماع في المنطقة. ولمقاومة هذه المساعى فليس امام مصر خيار من الناحية الاستراتيجية. اذ ان قدرها يفرض عليها ان تظل مستنفرة ومفتوحة الأعين على ما يدور حولها دائما، وقابضة على اسباب العافية والمنعة في كل حين.
الدكتور جمال حمدان تحدث عما اسماه "جناية الموقع" (شخصية مصر- جزء 2)، فقال ان الموقع جنى علينا واغرى بنا الاستعمار والاطماع الامبريالية. وقد اعتبر نابليون ان مصر هى اهم موقع استراتيجى في العالم اجمع، حتى قيل من بعده "قل لى من يسيطر على مصر، اقل لك من يسيطر على العالم". وذهب آخرون الى ان بلدا بمثل الاهمية التى تتمتع بها مصر، لا ينبغى ان تُترك لنفسها، وان تظل مستقلة من الناحية السياسية. وبسبب اهمية الموقع هذا، فانها ظلت على مدار تاريخها مطمعاً للآخرين، حتى يقدر بعض الباحثين أن 40 أمة غزتها وسيطرت عليها. اذ خلال تاريخها الطويل فانها عاشت مستقلة 3300 سنة، مقابل 2000 سنة من الاحتلال والتبعية للاخرين.
(2)
رغم اهمية الموقع، الا ان مصريحيط بها فراغ "قاتل" - كما يذكر الدكتور ربيع- اذ هى محاطة بالبحر من الشمال، والصحراء في الشرق. والاخطار التى هددتها تاريخياً جاءت من هذين الموضعين. من البحر القابع في الشمال جاء الاسكندر الاكبر وقيصر روما ونابليون، ومن الصحراء القابعة في الشرق جاء الهكسوس الذين حكموا مصر طيلة خمسة قرون. وهناك زرعت اسرائيل لتظل خطراً دائما يهددها. وبسبب الفراغ المحيط بها فقد كتب عليها ان تواجه الاخطار المحيطة بها وهى معتمدة على نفسها ووحيدة "مسيطرة بكبرياء، اومسحوقة تابعة بصبر، ولكن دائما وحيدة".
ما يثير الانتباه والدهشة ان مفهوم الامن القومى لمصر كانت معالمه واضحة في مختلف مراحل التاريخ، حتى في المرحلة الفرعونية. وعند الدكتور حامد ربيع فانه رغم ان دولة مصر الفرعونية لم تكن منفتحة ولا تسعى لاى سيطرة اقليمية، وكانت مصر آنذاك افريقية باكثر منها آسيوية، الا ان قياداتها الواعية فهمت ان الدفاع عن حدودها الشرقية لا يجوز ان يتمركز حول حدودها الطبيعية (في سيناء)، وانما يجب ان يبدأ من شمال سوريا، وعلى وجه التحديد من منطقة الاناضول. وحروب تحتمس ورمسيس تشهد بذلك، حيث عبرت عن ادراك حقيقة ان مصر لا تحتمل ولايسمح بوجود قوة معادية على حدودها الشرقية. بل ان صفحات التاريخ القديم تشير الى ان كل فرعون حكم مصر، سعى الى تأمين البلاد من خلال حملة قادها الى سوريا، أو غزوة قصدت ليبيا، أو زحف استهدف اخضاع النوبة. وهى الحملات التى اعتبرها الدكتور حمدان "ضريبة الموقع وثمن الحماية".
هذا المنظور الدفاعى ظل قائما طول الوقت في التاريخ المصرى حتى عصر محمد على باشا. اذ تحركت القوة المصرية في دائرتين، دائرة شملت الشام عموما وفلسطين خصوصا، وغرب الجزيرة العربية في الحجاز واليمن، ثم اقليم برقة في المغرب والنوبة في الجنوب. وهذه الدائرة كانت مسرحا للحروب المصرية. واكثر ما يصدق ذلك على الشام، الذى ارتبطت مصائره بمصائر مصر على طول العصور الوسطى خاصة، حتى يمكن القول بان مصر والشام كانا بلدا واحدا في معظم الاحيان.
الدائرة الثانية أوسع وأرحب، حيث وصلت جيوش مصر في الشمال الى تخوم الفرات وارمينيا وحواف الاناضول، وتمددت احيانا الى شمال العراق (الجزيرة) كما اخترقت قلب الاناضول منه. وفي الشرق وصلت الى نجد، ولكنها شملت الجزيرة العربية كلها من ادمرات. وفي الجنوب ارتبطت بشمال السودان أساسا، ولكنها تعدته فترة الى مشارف خط الاستواء والصومال. كما تعدت برقة الى طرابلس في الغرب بعض الاحيان. اما في البحر فقد تمددت لتشمل قبرص احيانا (في مرحلة المماليك- وكريت حينا آخر (محمد على باشا).
في كل مراحل التاريخ كانت العلاقة بين مصر والشام علاقة عضوية، بحيث يمكن القول بان الساحل الممتد من الاسكندرونة حتى الاسكندرية هوقطاع استراتيجى واحد. وكما يقول الدكتور حمدان فان من وضع قدمه على اى طرف اونقطة فيها وصل الى الطرف الآخر تلقائيا. معنى ذلك -يذكر الدكتور ربيع- ان من يسيطر على الشام يهدد مصر، ومن يتحكم في مصر يهدد الشام. هذه المعادلة فهمها عمرو بن العاص جيدا، وعبر عن قناعته بها للخليفة عمر بن الخطاب، حين اخبره بان الدولة الاسلامية الناشئة اما ان تفتح مصر واما ان تنسحب من الشام. ونابليون انسحب من مصر عندما فشل في فتح عكا، والسياسة البريطانية حين ارادت ان تتحكم في مصر، جعلت تبعية فلسطين اوالجزء الجنوبى من الشام قاعدة لتحركها في المنطقة. بسبب ذلك اتفق العالمان الكبيران مع غيرهما من الباحثين الاستراتيجيين على ان خط الدفاع الاول عن مصر هوشمال الشام (جبال طوروس)، وخط الدفاع الثانى يقع في الجزء الجنوبى، يتمركز حول المنطقة التى عرفت باسم ارض فلسطين. اما خط الدفاع في سيناء فهوفي الواقع خط الدفاع الاخير، وهواليوم يتمركز حول قناة السويس.
(3)
ازاء تلك الاهمية الاستراتيجية لم يكن غريبا ان تتركز جهود قوى الهيمنة على اضعاف مصر وتحجيمها واختراقها ما وسعت الى ذلك سبيلا. وهوما يفسر لنا اصرار الدول الغربية على ضرب مشروع محمد على باشا في القرن التاسع عشر ومشروع جمال عبد الناصر في القرن العشرين. وهوما يفسر لنا ايضا ان مصر كانت اول دولة زحف عليها الاستعمار في افريقيا، واول دولة جرى استدراجها للصلح مع اسرائيل، واخراجها من دائرة الصراع العربي-الاسرائيلى، تمهيدا لتصفية القضية الفلسطينية.
لقد قال لى ذات مرة الخبير الاستراتيجى الفلسطينى منير شفيق ان البعض يتحدثون عن التضحيات التى قدمتها مصر لفلسطين، لكن الحقيقة ان فلسطين هى التى صلبت من اجل ضرب مصر. لان فلسطين لم يكن فيها ما يغرى باقامة وطن لليهود، مع ذلك فقد وقع الاختيار عليها من بين عدة بدائل اخرى في امريكا اللاتينية وافريقيا، لا لشئ الا لكي تصبح منصة غربية في مواجهة مصر، وحاجزا يحول دون تواصلها مع الشام. الامر الذى يعنى انها كانت حجرا ضرب عصفورين في وقت واحد، احدهما تهديد مصر وتكبيلها، وثانيهما تحقيق رغبة الحركة الصهيونية في اقامة وطن لليهود. اضاف صاحبنا ان كل ما يقال الآن عن ارض الميعاد وهيكل سليمان هو كلام قيل في وقت لاحق لتغطية العملية، علما بان آباء المشروع الصهيوني كانوا ملحدين ولا يؤمنون بمثل هذا الكلام.
ما اثار انتباهى اننى سمعت نفس الحجة في السودان، من الدكتور حسن مكي مدير مركز الدراسات الافريقية، الذى قال لى ان حرب الجنوب التى انهكت السودان وعوقت حركته هى حرب مصرية بالاساس. والدور الاسرائيلى الذى لم يعد سرا في اذكاء تلك الحرب وتأجيج نارها، والمساندة الامريكية الكبيرة لحركة الانفصال، لم يكن له من هدف سوى ازعاج مصر واضعاف عمقها الاستراتيجى. من هذه الزاوية فان السودان، كما فلسطين، من ضحايا جهود القوى الكبرى لحصار مصر وتطويقها، بما يحول دون قيامها بدورها التاريخى الفاعل.
اذا جاز لنا بعد ذلك ان ندير البصر من حولنا، فسنجد ان ثمة متغيرات مثيرة للغاية في الصناعات العسكرية، طورت من الاسلحة بحيث الغت المسافات، وقلبت معايير المجال الحيوى والامن القومى، بما يستدعى النظر في كافة المحددات التى نعرفها بهذا الخصوص اوذاك. لكننا ايضا سنجد ان مصر المكانة لم تعد تقلق العدو ولا تسر الصديق، وان مصر المكان هى الان موضع البحث واللغط والمساومة، وأن أحد شواغل المخططين الغربيين ليس فاعلية الدور المصرى وتأثيره في العالم العربى، ولكنه اصبح يتركز في كيفية استثمار غياب مصر اوما تبقى لها من رصيد في تنفيذ وتمرير المخططات الغربية للمنطقة.
(4)
لا اعرف ما الذى يمكن ان يقوله العالمان ربيع وحمدان اذا قدر لهما الاطلال على المحيط الاستراتيجى لمصر الراهنة. حين يرون الذى جرى لشمال الشام من استباحة وتقسيم وتفتيت اصاب العراق وطرق ابواب لبنان، وما حدث من تحولات شقت الصف الفلسطينى بحيث اصطفت بعض القيادات في المربع الاسرائيلى وتوافقت معهم على تصفية اخوانهم في غزة. وكيف انقلب الحال في الامة العربية بحيث اصبح العرب هم الذين يلاحقون اسرائيل بمبادرة السلام، والاسرائيليون هم الذين يتمنعون ويسوفون. وكيف بسطت واشنطن سلطانها على العالم العربى من اقصاه الى اقصاه، بسياساتها التى اصبحت تحرك مساراته وقواعدها العسكرية المبثوثة في ارجائه. وماذا سيقولان عن العبث الامريكى في المنطقة الذى يحاول ان يقنع بعض العرب "المعتدلين" للتحالف مع اسرائيل في مواجهة ايران. وكيف سيريان تأثر امن مصر المائى بإنفصال جنوب السودان الذى يلوح في الافق، وامنها القومى بالتوتر الحاصل مع بدو سيناء-خط الدفاع الأخير عن مصر وباللغط المثار حول وضع النوبيين في جنوب البلاد.
ان مصر لا تستطيع ان ترى هذه الاحداث تتفاعل وتتلاطم حولها ثم تدير ظهرها لها وتلتزم الصمت، خصوصا ان اسرائيل المدججة بالسلاح النووي على حدودها تسعى لتحديث جيشها بأكثر الاسلحة تقدما واشدها فتكاً، متأهبة بذلك لقيادة المنطقة والدفاع عن امنها القومي الذى تدعى انه يمتد من المحيط الهندى الى البحر المتوسط. وهو ما يدعونا الى الالحاح على دق اجراس الانذار والتنبيه طول الوقت لكى يستيقظ الغافلون ويفيق الذاهلون قبل فوات الآوان، لان كلا من الانزواء أو الانكفاء يعد ترفاً لا نملكه، ناهيك عن انه يفتح الباب واسعا لتهديد الامن القومي لمصر.
محمد زكريا القاضى- عضو فعال
- عدد الرسائل : 142
نشاط العضو :
تاريخ التسجيل : 17/08/2007
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى